إن الحمد لله، نَحْمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه،ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربِّي وسلامُه عليه، وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فسبُل إصلاح النَّفس وتهذيبها يكون على مَرْحلتين: الأُولى قصيرة المَدى، لا تحتمل التَّأجيل والتسويف، وإلاَّ هلَكَت النفس، وباءت بسخط الله تعالى، والثانية طويلة المدى، فيها جِمَاع كلِّ خير، يؤدِّي إلى نَجاتها وفلاحها في الدُّنيا والآخرة.
ولْنَبدأ في بيان الأمر، والله الْمُستعان.
سبل علاج النفس وتقويمها على المدى القصير:
وتلك السُّبُل لازمة لاِسْتقرار النَّفس والمحافظة على مُسْتواها من الْهُبوط للأَدْنَى، فيصعب العلاج ويطول الأمر، ويفقد المرء الأمل، فتَخُور عزيمته، وتضعف قُوَّتُه، ويهلك نفسه، وأكتفي هنا بذِكْر سبيلين من أهمِّ السُّبل التي فيهما حياة النُّفوس، وفي تركهما ضياعٌ للنَّفس، وليس في إصلاحها بعد ذلك فائدة ألبتَّة، وهما:
1- إخلاص التوحيد لله تعالى بلا شوائب.
2- المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة.
ولا مَفرَّ من تقويم النَّفس وترويضها على هذين السَّبيلين على المدى القصير دون تأجيل أو إبْطَاء، إذا نَوى العبد بإخلاص إِصْلاح ما بينه وبين الله - جلَّ شأنه - حقًّا، وقد يكون هذا صَعْبًا وشاقًّا بعض الشَّيء على النَّفس التي طُبِعَت على المعصية، ولكنه فيه نَجاتها وفلاحها.
وإليك البيانَ والتَّوضيح لهما، والله المستعان:
1 - إخلاص التوحيد الله تعالى بلا شوائب:
ولماذا التَّوحيد؟
لأنَّ الشِّرك الذَّنبُ الذي لا يغفره الله تعالى؛ لقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًاعَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].
ولقوله - تعالى -: ﴿ وَمَاأُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَحُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُالْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أتاني آتٍ من ربِّي فأخبَرَني - أو قال: بشَّرَني - أنه مَن مات مِن أُمَّتِي لا يُشْرك بالله شيئًا دخل الجنَّة))، قلتُ: وإنْ زنَى وإن سرق؟ قال: ((وإن زنَى وإن سرق))[1].
وأنت بتوحيدك لله يكون لنفسك حقٌّ عند الله تعالى أن يُدْخِلها الجنة:
• عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رِدْفَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - على حِمَار يُقال له: عُفَير، فقال: ((يا معاذ، تدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟)) قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يَعْبدوا الله ولا يُشْرِكوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله - عزَّ وجلَّ - ألاَّ يُعذِّب من لا يُشرك به شيئًا))، قال: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّر الناس؟ قال: ((لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا))[2].
فإيَّاك والشِّركَ، سواء كان أكبر، كالطَّواف بالقبور، ودُعاء الأموات من دون الله، أو الذَّبح والسُّجود لغيره، أو ما أشبه ذلك مما يُخْرِج الإنسان من المِلَّة، أو شركًا أصغر، لا يُخرج الإنسان من الملَّة، ولكنه لا يَأْمَن على نَفْسِه من سخط الله عليه، فضلاً عن إحباطه للعمل، ومن أنواع هذا الشِّرك الحلف بغير الله، أو تصديق العرَّافين والدجَّالين، أو الرِّياء أو الطِّيَرة، وما أشبه ذلك.
ويجب علينا ترويض النَّفس على التوحيد الخالص لله تعالى بأنواعه الثلاثة:
• (توحيد الربوبيَّة)؛ أيْ: لا ربَّ سواه، وإفراده - سبحانه وتعالى - بالخلق، والمُلْك، والتَّدبير، قال - تعالى -: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [فاطر: 3].
• (توحيده الألوهيَّة)؛ أي: لا إله سواه، وإدراك أنَّ مَن يشرك به ويموت على ذلك مَصِيره النَّار؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].
• (توحيد الأَسْماء والصفات)؛ أيْ: إفراد الله - سبحانه وتعالى - بما سَمَّى ووصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلم - مثل صفة النُّزول من السماء، والضَّحِك والفرَح والعجَب، واليد، والعين، والرِّجل... إلخ، وذلك بإِثْبات ما أثبَتَه سبحانه وتعالى لِنَفْسِه، وما أثبته له رسولُه - صلَّى الله عليه وسلم - من غير تَحْريف، ولا تَعْطيل، ومن غير تَكْييف، ولا تمثيل؛ لقوله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
2- المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة:
الصَّلاة هي الرُّكن الثَّاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدِّين وذرْوة سنَامه، مَن أقامها فقد أقام الدِّين، ومن تركها فقد هدم الدِّين، وهي الصِّلة التي تربط العبد بربِّه خَمْسَ مرَّات في اليوم واللَّيلة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، لماذا؟
لأنَّها تجعل العبد دائمًا مُراقِبًا لله تعالى في أعماله وأقواله، في ذَهابه وإِيابه، في سَريرته وعلانيته؛ لأنَّه سبحانه معه حيث كان، فتطمئنُّ نفسه، وتَسْكن جوارحه، ويستريح قلبه وفؤاده من هُموم الدُّنيا ومتاعبها؛ ولهذا كان النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلم - إذا حان وقت الصَّلاة يقول لِمُؤذِّنه بلال - رضي الله عنه -: ((قُمْ يا بلال، فأَرِحْنا بالصَّلاة))[3].
ومِن ثَم أداء الصلاة أمر لا يحتمل التَّأجيل، وإلاَّ وقع صاحب هذه النَّفس المتمرِّدة على شرع الله تحت وعيد قوله - تعالى -: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا*إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 59 - 60].
قال ابن كثير في "تفسيره" ما مُخْتصَره: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ [مريم: 59]؛ أيْ: قرون أُخَر، ﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ [مريم: 59] وأقبَلوا على شهوات الدُّنيا وملاذِّها، ورَضُوا بالحياة الدُّنيا واطمأنُّوا بها، فهؤلاء سيَلْقون غيًّا؛ أيْ: خسارًا يوم القيامة، وقد اختلفوا في الْمُراد بإضاعة الصَّلاة هاهنا، فقال البعض: المراد بإضاعتها تَرْكُها بالكُلِّية، وقال غيرُهم كالأوزاعيِّ: إنَّما أضاعوا المواقيت ولو كان تركًا كان كفرًا.
وقال الأوزاعي: قرَأ عُمَر بن عبدالعزيز: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ [مريم: 59]، ثم قال: لَم تكن إضاعتُهم تَرْكها، ولكن أضاعوا الوقت، وقال مُجاهد: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالِحي أُمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلم - يَنْزُو بعضهم على بعض في الأَزِقَّة، وقال الحسن البصريُّ: عَطَّلوا المساجد ولزموا الضَّيعات))[4].
• وقوله - تعالى -: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ*فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 42 - 48].
وفي السُّنَّة الصحيحة عشرات من الأدلَّة، فيها من التحذير والوعيد الشديدَيْن؛ ما يجعل ترك الصلاة كبيرة من أعظم الكبائر التي تؤدِّي بصاحبها إلى النار، والعياذ بالله الرحيم منها.
من ذلك:
• ما رواه أحمد وغيرُه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبُرْهانًا ونَجاة يوم القيامة، ومَن لَمْ يُحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفِرْعون وهامان وأُبَيِّ بن خلف))[5].
• ما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ بين الرجل وبين الشِّرك والكُفْر تَرْكَ الصلاة))[6].
وقال النوويُّ في شرح الحديث ما مُختصره: "ومعنى ((بينه وبين الشرك ترك الصلاة)): أنَّ الذي يَمْنع من كُفْرِه كونُه لم يَتْرك الصلاة، فإذا ترَكَها لم يَبْقَ بينه وبين الشِّرك حائل، بل دَخَل فيه، وأمَّا تارك الصَّلاة فإنْ كان مُنْكِرًا لِوُجوبها فهو كافِرٌ بإِجْماع المُسْلمين، خارج من ملَّة الإسلام؛ إلاَّ أن يكون قريبَ عَهْد بالإسلام، ولم يُخالِط المُسْلِمين مُدَّة يَبْلغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإن كان تَركه تكاسُلاً مع اعتقاده وجوبَها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشُّافعي - رحمهما الله - والجماهيرُ من السَّلَف والخلَف إلى أنَّه لا يكفر، بل يفسق ويُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتلناه حدًّا كالزَّاني المُحْصَن، ولكنه يُقْتَل بالسَّيف، وذَهب جماعة من السَّلَف إلى أنه يكفر" اهـ.
ومن ثَمَّ، فمَن أراد لِنَفسه النَّجاة ينبغي أن يَحْملها على عمَلِ المكاره، فالجَنَّة لا يدخلها أحدٌ إلاَّ بِمَشقَّة، والصَّلاة يجب أداؤُها في أوقاتها وهي ثقيلة على النُّفوس الغافلة، ولا يُواظِب عليها إلاَّ مَن عرف كيف يُرَوِّض نفْسَه ويحملها على المكاره ومرضاةِ الله تعالى.
وكلمة أخيرةقبل أن نَشْرع في بيان السُّبُل على المدى الطويل لأصحاب النُّفوس الضعيفة الَّذين لا يجدون غَضاضة في ترك الصلاة، أقول لهم: لقد رخَّص الشَّرع لأصحاب الأعذار بالصَّلاة في البيوت حتَّى زوال العذر، كمَرض، أو مطَر، أو بَرْد شديد، أو ظُلْمة، وغير ذلك، وكذلك رخَّص بالتيمُّم عند فَقْد الماء، والجمع بين الصلوات عند المشقَّة، وقَصْرها عند السَّفر وما أشبه ذلك، وفي ديننا سعَة، ولله الحمد والمِنَّة.
ولكن لَمْ يُرَخِّص الشرع في تَرْكها بالكُلِّية أبدًا، ولو فرضًا واحدًا، مهما كانت الأعذار والمُبَرِّرات، اللَّهم إلاَّ مَن ينطبق عليه قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتَّى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصَّبِي حتى يَحْتَلم))[7]،ثُم إنِّي لَم أجد ما أقوله لمن يستسلم لنفسه الأمَّارة بالسُّوء ويترك الصَّلوات الخمس المفروضة، أو بعضها إلاَّ قوله - تعالى وجلَّ شأنه -: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14 - 15].
فقد صارت الصلاة عند مثل هؤلاء ثقيلةً على القلوب، وصار لسان حالِهم يقول: "يا بلالُ، أرِحْنا من الصَّلاة"! وحسبنا الله ونِعْم الوكيل.
ثانيًا: السُّبُل التي تعين النَّفْس على المدى الطويل:
وهذه السُّبل تحتاج لتحقيقها جميعًا على المدى الطويل إلى صَبْر ويقين برحمة الله لا يتَزَعزع، وتوكُّلٍ عليه وعزيمة لا تَلِين، ومن هذه السُّبل على سبيل المثال لا الحصر، وفيها مُجْمل الأمر في اعتقادي:
1- لا تَفْتُر عن ذِكْر الله تعالى.
2- أتَبْعِ السيِّئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وحافِظْ على حسناتك.
3- تفقَّهْ في دينك؛ لِتَعبد الله على بصيرةٍ من أَمْرِك.
4- لا تفرح بما آتاك الله، ولا تَحْزن على ما فاتك.
5- لا تغترَّ بِكَثْرة الهالكين، والحَقُّ أحَقُّ أن يُتَّبع.
6- لا تَخْش إلاَّ الله تعالى، ولا تأخُذْك فيه لومةُ لائم.
7- إيَّاك وطولَ الأمل في الدُّنيا، واذكر الموت والبِلَى.
8- لا تُحبَّ إلاَّ في الله، ولا تُبْغِض إلاَّ فيه.
9- لا يَغُرَّك الحسَب والنَّسب والمال عن أمر الحِساب.
10- تخَلَّص من آفات الجوارح المُحْبِطة للعمل.
11- لا تُهْمِل محاسبة نفسك ومراقبتها يوميًّا.
12- لا تتحمَّل أوزار غيرك، وكُنْ قوَّامًا على أهلك.
13- أَطِبْ مطعمك، ولا تأكل من حرام أو شبهة.
14- أحْسِن الظنَّ بالله، ولا تيئس من رحمته أبدًا.
15- جاهِدْ نفسك على ترك الشَّهوات وإتيان المكاره.
16- لا تقترب من مواضع الفِتَن حتَّى لا تقع فيها.
17- الْتَزم بمنهج أهل السُّنة والجماعة؛ لأنَّها الفرقة الناجية.
وحتَّى لا يَطول بنا البيان في شَرْح كلِّ هذه السُّبل؛ أكتفي هنا ببيان الثَّلاثة الأولى منها، وأترك الباقي لفِطْنة واجتهاد القارئ في معرفة تفاصيلها وبيانها.
وأُوصيهبالبحث والتأمُّل في هذه الكتب الثلاثة النَّفيسة للعلاَّمة ابن القيِّمتلميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمهما الله تعالى - وفيها ما يَكْفيويشفي، والله المستعان:
1- "إغاثة اللَّهفان من مصائد الشيطان".
2- "الجواب الكافي لمن سأل عن الدَّواء الشَّافي".
3- "روضة المُحِبِّين ونزهة المشتاقين".
ولْنَشرع في بيان السُّبل الثَّلاثة الأولى بلا تطويل مُملٍّ أو تقصير مُخِل، والله المستعان.
1 - لا تفتر عن ذكر الله تعالى:
قال - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ﴾ [البقرة: 152]، وقال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْرَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَالْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
وقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مثَلُ الذي يَذْكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه، مثَلُ الحيِّ والميِّت))[8].
واعلم - أخي القارئ - أنَّ الذَّاكر لله تعالى قريبٌ من ربِّه، وفي جَناب رَحْمته وكرَمِه، تَستغفر له ملائكتُه، وينبغي أن يَلْتَزم بآداب الذِّكر وشروطِه؛ ليكون مقبولاً عند الله تعالى، وتَسْمُو نفْسُه بِقُربِها من الله تعالى.
قال النوويُّ في كتابه "الأذكار" (1/ ص 10) ما مُختصَره:
"الذِّكر يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، والأفضل منه ما كان بالقَلْب واللِّسان جميعًا، فإنِ اقتصر على أحدِهِما فالقلب أفضل، ثُمَّ لا ينبغي أن يَتْرك الذِّكر باللِّسان مع القلب؛ خوفًا من أن يُظَنَّ به الرِّياء، بل يَذْكر بهما جميعًا، ويقصد به وَجْه الله تعالى".
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
"اعلم أنَّ فضيلة الذِّكر غير مُنْحَصِرة في التَّسبيح والتهليل، والتحميد والتَّكبير ونَحْوِها، بل كلُّ عاملٍ لله تعالى بطاعة فهو ذاكِرٌ لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جُبَير - رضي الله عنه - وغيره من العلماء.
وقال عطاء - رحمه الله -: مَجالس الذِّكر هي مَجالس الحلال والحرام؛ كيف تَشْتري وتبيع؟ وتصلي وتصوم؟ وتنكح وتطلِّق؟ وتحجُّ؟ وأشباه هذا"؛ اهـ.
والنفس تطمئنُّ إلى ما يطمئِنُّ إليه القلب، والقلب يطمئن بذِكْر الله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
ومِن ثَمَّ، لا مندوحة من كَثْرة الذِّكر؛ لِمَا له من الفوائد العظيمة في صَلاح النَّفس والقلب معًا.
وقال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - في "الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطيِّب"، (1/ ص56) عن فوائد الذِّكر ما مُختصَرُه:
"ولا ريب أنَّ القلب يَصْدأ كما يصدأ النُّحاس والفِضَّة وغيرهما، وجِلاؤه بالذِّكر، فإنه يَجْلوه حتى يَدَعَه كالمِرْآة البيضاء، فإذا ترك صَدِئ، فإذا ذكَر جلاه.
وصدَأُ القلب بأَمْرين؛ بالغفلة، والذَّنب، وجِلاؤه بشيئين؛ بالاستغفار، والذِّكر.
فمَن كانت الغفلةُ أغلبَ أوقاته كان الصَّدأ مُتَراكبًا على قلبه، وصدَؤُه بحسب غفلته، وإذا صَدِئ القلب لم تَنْطبع فيه صُوَر المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل؛ لأنَّه لَمَّا تراكَم عليه الصَّدَأ أظْلَمَ فلم تَظْهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ ورَكِبه الرَّان، فسَد تصَوُّره وإدراكه، فلا يَقْبل حقًّا ولا يُنْكِر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب.
وأصل ذلك من الغفلة واتِّباع الْهَوى؛ فإنهما يَطْمِسان نور القلب ويعْمِيان بصَره؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
فإذا أراد العبد أن يَفْتدي برجل فَلْينظر: هل هو من أهل الذِّكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكِمُ عليه الهوى أو الوحي؟
فإن كان الحاكم عليه هو الْهَوى وهو من أهل الغَفْلة، كان أمره فرُطًا، ومعنى الفرُطِ قد فُسِّر بالتضييع؛ أيْ: أمْرُه الذي يجب أن يَلْزَمَه ويقوم به، وبِه رشْدُه وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفُسِّر بالإسراف؛ أيْ: قد أفرط، وفُسِّر بالإهلاك، وفُسِّر بالخلاف للحقِّ، وكلها أقوال متقارِبَة، والمقصود أنَّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن طاعة مَن جَمَع هذه الصِّفات.
فينبغي للرَّجل أن ينظر في شيخه وقُدْوته ومَتْبوعه، فإنْ وجَده كذلك فلْيبْعد منه، وإنْ وجَدَه ممن غلب عليه ذِكْر الله - عزَّ وجلَّ - واتِّباع السُّنة، وأمره غير مَفْروط عليه، بل هو حازم في أمره - فلْيَستمسك بِغَرْزِه، ولا فرق بين الحيِّ والميت إلاَّ بالذِّكر، فمَثَل الذي يَذْكر رَبَّه والذي لا يذكر ربَّه كمثَل الحيِّ والميت.
ثمذكر - رَحِمَه الله تعالى - عشرات من فوائد ذِكْر الله تعالى، والتي فيهاصلاحُ القلوب والنُّفوس، نَذْكر بعضها هنا، والله المستعان:
1- أنَّه يَطْرد الشَّيطان ويقمعه ويكسره.
2- أنه يُرْضي الرحمن - عزَّ وجلَّ.
3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
4- أنه يَجْلب الرِّزق.
5- أنه يكسو الذَّاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
6- أنه يورثه المَحبَّة التي هي رُوح الإسلام وقُطْب رحَى الدِّين، ومدار السعادة والنَّجاة، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، وجعل سبب المَحبَّة دوام الذِّكر، فمن أراد أن يَنال مَحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - فلْيَلْهَج بذِكْره؛ فإنه الدَّرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذِّكْر باب المَحبَّة وشارعها الأعظم وصِرَاطها الأقوم.
7- أنَّه يورثه المراقبة حتى يُدْخِله في باب الإحسان، فيَعْبد الله كأنَّه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
8- أنه يورثه الإِنَابة، وهي الرُّجوع إلى الله - عزَّ وجلَّ - فمتَى أكثر الرُّجوع إليه بِذِكْره أورَثَه ذلك رجوعَه بقلبه إليه في كلِّ أحواله، فيَبْقى الله - عزَّ وجلَّ - مَفْزَعَه وملجَأَه، ومَلاذَه ومَعاذَه، وقِبْلةَ قلْبِه، ومَهْرَبه عند النوازل والبلايا.
9- أنَّه يورثه الهيبة لربِّه - عزَّ وجلَّ - وإجلالَه؛ لشدَّة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإنَّ حجاب الهيبة رقيقٌ في قلبه.
10- أنَّه يورثه ذِكْرَ الله تعالى له؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، ولو لم يكن في الذِّكر إلاَّ هذه وحدها لكَفى بها فضلاً وشرفًا، وقال - صلَّى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِي عن رَبِّه - تبارك وتعالى -: ((مَن ذكَرَني في نفْسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكَرني في مَلأٍ ذكَرْتُه في ملأٍ خير منهم)).
11- أنه يحطُّ الخطايا ويُذْهِبها؛ فإنَّه من أعظم الحسنات، والحسنات يُذْهِبن السيِّئات.
12- أنه سبب اشتغال اللِّسان عن الغيبة والنَّميمة، والكذب والفُحْش والباطل، فإنَّ العبد لا بُدَّ له من أن يتكلَّم، فإن لم يتكلَّم بِذِكْر الله تعالى وذِكْر أوامره تكلَّم بهذه المُحَرَّمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السَّلامة منها ألبتَّة إلاَّ بذِكْر الله تعالى.
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمَن عوَّد لِسانه ذِكْرَ الله صان لسانه عن الباطل واللَّغو، ومن يبس لسانه عَن ذِكْر الله تعالى ترَطَّب بكلِّ باطل ولَغْو وفُحْش، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
2- أتْبِعِ السيِّئة الحسنة تَمْحُها، وحافِظْ على حسناتك:
فلو نطَق لِسانُك بكلمة لا يَرْضاها الله تعالى كغِيبة أو نَميمة أو كذبة فهذه سيِّئة، وللمحافظة على رُجْحان كفَّة حسناتك، أتْبِع السيِّئة الحسنة، وهذا ما أوصانا به الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيِّئةَ الحسنة تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بِخُلُق حسن))[9].
فعليك بذِكْر الله، ولك بكلِّ تسبيحة صدقَة، وكلِّ تهليلة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، أو قل بعدها: "أستغفر الله العظيم، وأتوب إليه"، وإيَّاك والإصرارَ على الخطأ في الكلام، فرُبَّما كانت كلمة تُخْرِجك من المِلَّة؛ لحديث البخاريِّ عن أبي هريرة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من رِضْوان الله لا يُلْقِي لَها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم))[10].
ومن رحمة الله أنَّه يُجازي السيِّئة بالسيِّئة، والحسنة بِعَشر؛ لِحَديثِ مُسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: إذا هَمَّ عبدي بسيِّئة فلا تَكْتبوها عليه، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها سيِّئة، وإذا هَمَّ بحسنة فلم يَعْمَلها فاكتبوها حسَنة، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها عشرًا))[11].
فالمقصود: إنْ عَمِلْت عملاً لا يَرْضاه الله حرَّضك عليه شيطانُك؛ لِغَضب أو كِبْر، فعليك بِعَمَل يمحو العمل السيِّئ؛ لأنَّ الحسنات تُذْهِبْن السيِّئات.
وهذا الأمر يَسْتلزم من العبد أن يكون مُراقِبًا ومُحاسبًا لِنَفْسِه، وإلاَّ هلك بتراكُم السيِّئات، وقِلَّة الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ مَن أتى الله تعالى بِقَلب سليم.
ويَجِب على مَن تستحلُّ نَفْسُه المعصية أيًّا كانت أن يُبادر إلى تقويمها وترويضها، ولا يتركها على هواها، فتُفْسِد عليه دينَه ودنياه، ولا يكتفي بإصلاح خُطاها بالحسنات الماحية، بل لا بُدَّ من تغييرها للأفضل ولو بالتدرُّج؛ وذلك عن طريق المجاهدة.
قال العلاَّمة ابن القيِّم في "الفوائد" (1/60) ما نَصُّه:
"قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69] علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمَلُ الناس هداية أعظَمُهم جِهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النَّفْس، وجهاد الْهَوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدُّنيا، فمَن جاهَدَ هذه الأربعة في الله هداه الله سبُلَ رِضاه المُوصلة إلى جَنَّتِه، ومن ترك الجهاد فاته مِن الْهُدى بحسب ما عطَّل من الجهاد، قال الْجُنَيْد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتَّوبة لَنهدِيَنَّهم سبُلَ الإخلاص، ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلاَّ مَن جاهد هذه الأعداء باطِنًا، فمن نُصِر عليها نُصر على عدوِّه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِر عليه عدوُّه"؛ اهـ.
3- تفَقَّه في الدِّين؛ لِتَعبد الله على بصيرة مِن أمرك:
أغْلَب عيوب وآفات النَّفس تأتي من الجهل بالحلال والحرام، ولو تفقَّه العبد في دينه لاسْتَطاع ترويض نفسه وتقويمها على طاعة الله تعالى، وفي القرآن والسُّنة من الحَثّ على العلم والتعلُّم نصوص كثيرة، أذكر منها:
• قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
• وقوله - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
• ومن السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا حسَدَ إلاَّ في اثنتَيْن: رجُلٍ آتاه الله مالاً، فسُلِّط على هلَكَتِه في الحقِّ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها))[12].
• وقوله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن سلَك طريقًا يَلْتمس فيه عِلمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة))[13].
والوسيلة للتفقُّه تأتي من عدَّة طُرُق، منها:
1- أن يُحضِّر درسًا أسبوعيًّا على الأقلِّ، في المسجد أو عن طريق الاستماع أو المشاهدة، ولْيُكثِر من الاطِّلاع والقراءة لِكُتُب العلماء الثِّقات من أهل السُّنة والجماعة.
2- أن يَسأل أهل الذِّكر ويَسْتفسر حتَّى يستوثق من الصَّواب عندما تستشكل عليه بعضُ المسائل؛ لتوضيح ما لم يَفْهمه، ولْيَحْذر من تفسيرها على هواه، فيفهم غير مرادها، فيقع في معاصٍ لم يكن يَرْتَكِبها، ولْتَكن أسئلته في المُهِمِّ، وليس في إشكالات وتفاهات، وإنَّما ما ينفع دينه ودُنياه.
3- أن يعمل بما يَعْلم، ولا يكون التزامه أجوف؛ لأن العمل بدون عِلْم لا يكون، والعلم بدون عمل جنون.
يقول ابن القيِّم في كتابه "طريق الهجرتين"، (1/ 278) ما نصُّه:
"فمِن الناس مَن يكون له القُوَّة العلميَّة الكاشفة عن الطريق، ومنازِلِها وأعلامها، وعوارضها ومَعاثرها، وتكون هذه القُوَّة أغلب القُوَّتَيْن عليه، ويكون ضعيفًا في القوَّة العمليَّة، يبصر الحقائق ولا يعمل بِمُوجبِها، ويرى الْمَتالف والْمَخاوف والْمَعاطب، ولا يتوقَّاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، وإذا حضر العمل شارك الجُهَّال في التخلُّف، وفارقَهم في العلم، وهذا هو الغالِب على أكثر النُّفوس المشتَغِلَة بالعلم، والمعصومُ مَن عصَمَه الله، ولا قُوَّة إلاَّ بالله.
ومن النَّاس مَن تكون له القُوَّة العمَليَّة الإراديَّة، وتكون أغلب القُوَّتين عليه، وتقتضي هذه القوَّة السَّيْر والسُّلوك، والزُّهد في الدُّنيا، والرَّغبة في الآخرة، والجِدَّ والتَّشمير في العمل، ويكون أعمى البصَر عند وُرود الشُّبهات في العقائد، والاِنْحرافات في الأعمال والأقوال والْمَقامات كما كان الأوَّل ضعيف العقل عند وُرود الشَّهوات، فَداءُ هذا مِن جهله، وداء الأوَّل من فَساد إرادته وضَعْف عقله.
وهذا حال أكثر أرباب الفَقْر والتصوُّف السَّالكين على غَيْر طريق العِلْم، بل على طريق الذَّوْق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مَطْلوبه لا يَدْري مَن يَعْبد ولا بِمَاذا يعبده؟فتارةً يَعْبده بِذَوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، مِن لبْس معيَّن، أو كشف رأس، أو حَلْق لِحْية ونحوها، وتارة يَعْبُده بالأوضاع التي وضَعَها بعضُ المُتَحذْلِقين، وليس له أصْلٌ في الدِّين، وتارة يعبده بما تُحبُّه نفسه وتهواه، كائنًا ما كان، وهُنا طرُق ومَتاهات لا يُحْصِيها إلاَّ ربُّ العِباد.
فهؤلاء كلُّهم عمي عن ربِّهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بَعَث به رسُلَه، وأنزل به كتُبَه، ولا يَقبل مِن أحدٍ دِينًا سواه، كما أنَّهم لا يَعْرفون صفات ربِّهم التي تعرَّف بها إلى عِباده على ألْسِنَة رسُلِه، ودعاهم إلى معرفته ومَحبَّتِه مِن طريقها، فلا معرفة بالرَّبِّ، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القُوَّتان استقام له سَيْره إلى الله، ورُجِيَ له النُّفوذ، وقَوِيَ على ردِّ القواطع والموانع بِحَول الله وقُوَّته، فإنَّ القواطع كثيرة، شأنها شديدٌ، لا يَخْلص مِن حبائلها إلاَّ الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطَّريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكنَّ الله يَفْعل ما يريد.
والوقت - كما قيل - سيفٌ، فإنْ قطَعْتَه، وإلاَّ قطَعَك، فإذا كان السَّير ضعيفًا، والهِمَّة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنَّه جَهْد البلاء، ودَرَكُ الشَّقاء وشَماتة الأعداء، إلاَّ أن يتدارَكَه الله برحْمَة منه مِن حيثُ لا يَحْتسب، فيأخذ بِيَدِه، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولِيُّ التوفيق؛ اهـ.
ونكتفي بما ذكَرْنا من شَرْح وبيانٍ لسُبُلِ علاج النَّفْس وتهذيبها، والله من وراء القصْد، وهو يهدي السبيل
وكتبه الكاتب والداعية الاسلامي المصري سيد مبارك.
أمَّا بعد:
فسبُل إصلاح النَّفس وتهذيبها يكون على مَرْحلتين: الأُولى قصيرة المَدى، لا تحتمل التَّأجيل والتسويف، وإلاَّ هلَكَت النفس، وباءت بسخط الله تعالى، والثانية طويلة المدى، فيها جِمَاع كلِّ خير، يؤدِّي إلى نَجاتها وفلاحها في الدُّنيا والآخرة.
ولْنَبدأ في بيان الأمر، والله الْمُستعان.
سبل علاج النفس وتقويمها على المدى القصير:
وتلك السُّبُل لازمة لاِسْتقرار النَّفس والمحافظة على مُسْتواها من الْهُبوط للأَدْنَى، فيصعب العلاج ويطول الأمر، ويفقد المرء الأمل، فتَخُور عزيمته، وتضعف قُوَّتُه، ويهلك نفسه، وأكتفي هنا بذِكْر سبيلين من أهمِّ السُّبل التي فيهما حياة النُّفوس، وفي تركهما ضياعٌ للنَّفس، وليس في إصلاحها بعد ذلك فائدة ألبتَّة، وهما:
1- إخلاص التوحيد لله تعالى بلا شوائب.
2- المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة.
ولا مَفرَّ من تقويم النَّفس وترويضها على هذين السَّبيلين على المدى القصير دون تأجيل أو إبْطَاء، إذا نَوى العبد بإخلاص إِصْلاح ما بينه وبين الله - جلَّ شأنه - حقًّا، وقد يكون هذا صَعْبًا وشاقًّا بعض الشَّيء على النَّفس التي طُبِعَت على المعصية، ولكنه فيه نَجاتها وفلاحها.
وإليك البيانَ والتَّوضيح لهما، والله المستعان:
1 - إخلاص التوحيد الله تعالى بلا شوائب:
ولماذا التَّوحيد؟
لأنَّ الشِّرك الذَّنبُ الذي لا يغفره الله تعالى؛ لقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًاعَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].
ولقوله - تعالى -: ﴿ وَمَاأُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَحُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُالْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أتاني آتٍ من ربِّي فأخبَرَني - أو قال: بشَّرَني - أنه مَن مات مِن أُمَّتِي لا يُشْرك بالله شيئًا دخل الجنَّة))، قلتُ: وإنْ زنَى وإن سرق؟ قال: ((وإن زنَى وإن سرق))[1].
وأنت بتوحيدك لله يكون لنفسك حقٌّ عند الله تعالى أن يُدْخِلها الجنة:
• عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رِدْفَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - على حِمَار يُقال له: عُفَير، فقال: ((يا معاذ، تدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟)) قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يَعْبدوا الله ولا يُشْرِكوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله - عزَّ وجلَّ - ألاَّ يُعذِّب من لا يُشرك به شيئًا))، قال: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّر الناس؟ قال: ((لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا))[2].
فإيَّاك والشِّركَ، سواء كان أكبر، كالطَّواف بالقبور، ودُعاء الأموات من دون الله، أو الذَّبح والسُّجود لغيره، أو ما أشبه ذلك مما يُخْرِج الإنسان من المِلَّة، أو شركًا أصغر، لا يُخرج الإنسان من الملَّة، ولكنه لا يَأْمَن على نَفْسِه من سخط الله عليه، فضلاً عن إحباطه للعمل، ومن أنواع هذا الشِّرك الحلف بغير الله، أو تصديق العرَّافين والدجَّالين، أو الرِّياء أو الطِّيَرة، وما أشبه ذلك.
ويجب علينا ترويض النَّفس على التوحيد الخالص لله تعالى بأنواعه الثلاثة:
• (توحيد الربوبيَّة)؛ أيْ: لا ربَّ سواه، وإفراده - سبحانه وتعالى - بالخلق، والمُلْك، والتَّدبير، قال - تعالى -: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [فاطر: 3].
• (توحيده الألوهيَّة)؛ أي: لا إله سواه، وإدراك أنَّ مَن يشرك به ويموت على ذلك مَصِيره النَّار؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].
• (توحيد الأَسْماء والصفات)؛ أيْ: إفراد الله - سبحانه وتعالى - بما سَمَّى ووصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلم - مثل صفة النُّزول من السماء، والضَّحِك والفرَح والعجَب، واليد، والعين، والرِّجل... إلخ، وذلك بإِثْبات ما أثبَتَه سبحانه وتعالى لِنَفْسِه، وما أثبته له رسولُه - صلَّى الله عليه وسلم - من غير تَحْريف، ولا تَعْطيل، ومن غير تَكْييف، ولا تمثيل؛ لقوله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
2- المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة:
الصَّلاة هي الرُّكن الثَّاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدِّين وذرْوة سنَامه، مَن أقامها فقد أقام الدِّين، ومن تركها فقد هدم الدِّين، وهي الصِّلة التي تربط العبد بربِّه خَمْسَ مرَّات في اليوم واللَّيلة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، لماذا؟
لأنَّها تجعل العبد دائمًا مُراقِبًا لله تعالى في أعماله وأقواله، في ذَهابه وإِيابه، في سَريرته وعلانيته؛ لأنَّه سبحانه معه حيث كان، فتطمئنُّ نفسه، وتَسْكن جوارحه، ويستريح قلبه وفؤاده من هُموم الدُّنيا ومتاعبها؛ ولهذا كان النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلم - إذا حان وقت الصَّلاة يقول لِمُؤذِّنه بلال - رضي الله عنه -: ((قُمْ يا بلال، فأَرِحْنا بالصَّلاة))[3].
ومِن ثَم أداء الصلاة أمر لا يحتمل التَّأجيل، وإلاَّ وقع صاحب هذه النَّفس المتمرِّدة على شرع الله تحت وعيد قوله - تعالى -: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا*إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 59 - 60].
قال ابن كثير في "تفسيره" ما مُخْتصَره: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ [مريم: 59]؛ أيْ: قرون أُخَر، ﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ [مريم: 59] وأقبَلوا على شهوات الدُّنيا وملاذِّها، ورَضُوا بالحياة الدُّنيا واطمأنُّوا بها، فهؤلاء سيَلْقون غيًّا؛ أيْ: خسارًا يوم القيامة، وقد اختلفوا في الْمُراد بإضاعة الصَّلاة هاهنا، فقال البعض: المراد بإضاعتها تَرْكُها بالكُلِّية، وقال غيرُهم كالأوزاعيِّ: إنَّما أضاعوا المواقيت ولو كان تركًا كان كفرًا.
وقال الأوزاعي: قرَأ عُمَر بن عبدالعزيز: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ [مريم: 59]، ثم قال: لَم تكن إضاعتُهم تَرْكها، ولكن أضاعوا الوقت، وقال مُجاهد: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالِحي أُمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلم - يَنْزُو بعضهم على بعض في الأَزِقَّة، وقال الحسن البصريُّ: عَطَّلوا المساجد ولزموا الضَّيعات))[4].
• وقوله - تعالى -: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ*فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 42 - 48].
وفي السُّنَّة الصحيحة عشرات من الأدلَّة، فيها من التحذير والوعيد الشديدَيْن؛ ما يجعل ترك الصلاة كبيرة من أعظم الكبائر التي تؤدِّي بصاحبها إلى النار، والعياذ بالله الرحيم منها.
من ذلك:
• ما رواه أحمد وغيرُه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبُرْهانًا ونَجاة يوم القيامة، ومَن لَمْ يُحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفِرْعون وهامان وأُبَيِّ بن خلف))[5].
• ما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ بين الرجل وبين الشِّرك والكُفْر تَرْكَ الصلاة))[6].
وقال النوويُّ في شرح الحديث ما مُختصره: "ومعنى ((بينه وبين الشرك ترك الصلاة)): أنَّ الذي يَمْنع من كُفْرِه كونُه لم يَتْرك الصلاة، فإذا ترَكَها لم يَبْقَ بينه وبين الشِّرك حائل، بل دَخَل فيه، وأمَّا تارك الصَّلاة فإنْ كان مُنْكِرًا لِوُجوبها فهو كافِرٌ بإِجْماع المُسْلمين، خارج من ملَّة الإسلام؛ إلاَّ أن يكون قريبَ عَهْد بالإسلام، ولم يُخالِط المُسْلِمين مُدَّة يَبْلغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإن كان تَركه تكاسُلاً مع اعتقاده وجوبَها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشُّافعي - رحمهما الله - والجماهيرُ من السَّلَف والخلَف إلى أنَّه لا يكفر، بل يفسق ويُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتلناه حدًّا كالزَّاني المُحْصَن، ولكنه يُقْتَل بالسَّيف، وذَهب جماعة من السَّلَف إلى أنه يكفر" اهـ.
ومن ثَمَّ، فمَن أراد لِنَفسه النَّجاة ينبغي أن يَحْملها على عمَلِ المكاره، فالجَنَّة لا يدخلها أحدٌ إلاَّ بِمَشقَّة، والصَّلاة يجب أداؤُها في أوقاتها وهي ثقيلة على النُّفوس الغافلة، ولا يُواظِب عليها إلاَّ مَن عرف كيف يُرَوِّض نفْسَه ويحملها على المكاره ومرضاةِ الله تعالى.
وكلمة أخيرةقبل أن نَشْرع في بيان السُّبُل على المدى الطويل لأصحاب النُّفوس الضعيفة الَّذين لا يجدون غَضاضة في ترك الصلاة، أقول لهم: لقد رخَّص الشَّرع لأصحاب الأعذار بالصَّلاة في البيوت حتَّى زوال العذر، كمَرض، أو مطَر، أو بَرْد شديد، أو ظُلْمة، وغير ذلك، وكذلك رخَّص بالتيمُّم عند فَقْد الماء، والجمع بين الصلوات عند المشقَّة، وقَصْرها عند السَّفر وما أشبه ذلك، وفي ديننا سعَة، ولله الحمد والمِنَّة.
ولكن لَمْ يُرَخِّص الشرع في تَرْكها بالكُلِّية أبدًا، ولو فرضًا واحدًا، مهما كانت الأعذار والمُبَرِّرات، اللَّهم إلاَّ مَن ينطبق عليه قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتَّى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصَّبِي حتى يَحْتَلم))[7]،ثُم إنِّي لَم أجد ما أقوله لمن يستسلم لنفسه الأمَّارة بالسُّوء ويترك الصَّلوات الخمس المفروضة، أو بعضها إلاَّ قوله - تعالى وجلَّ شأنه -: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14 - 15].
فقد صارت الصلاة عند مثل هؤلاء ثقيلةً على القلوب، وصار لسان حالِهم يقول: "يا بلالُ، أرِحْنا من الصَّلاة"! وحسبنا الله ونِعْم الوكيل.
ثانيًا: السُّبُل التي تعين النَّفْس على المدى الطويل:
وهذه السُّبل تحتاج لتحقيقها جميعًا على المدى الطويل إلى صَبْر ويقين برحمة الله لا يتَزَعزع، وتوكُّلٍ عليه وعزيمة لا تَلِين، ومن هذه السُّبل على سبيل المثال لا الحصر، وفيها مُجْمل الأمر في اعتقادي:
1- لا تَفْتُر عن ذِكْر الله تعالى.
2- أتَبْعِ السيِّئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وحافِظْ على حسناتك.
3- تفقَّهْ في دينك؛ لِتَعبد الله على بصيرةٍ من أَمْرِك.
4- لا تفرح بما آتاك الله، ولا تَحْزن على ما فاتك.
5- لا تغترَّ بِكَثْرة الهالكين، والحَقُّ أحَقُّ أن يُتَّبع.
6- لا تَخْش إلاَّ الله تعالى، ولا تأخُذْك فيه لومةُ لائم.
7- إيَّاك وطولَ الأمل في الدُّنيا، واذكر الموت والبِلَى.
8- لا تُحبَّ إلاَّ في الله، ولا تُبْغِض إلاَّ فيه.
9- لا يَغُرَّك الحسَب والنَّسب والمال عن أمر الحِساب.
10- تخَلَّص من آفات الجوارح المُحْبِطة للعمل.
11- لا تُهْمِل محاسبة نفسك ومراقبتها يوميًّا.
12- لا تتحمَّل أوزار غيرك، وكُنْ قوَّامًا على أهلك.
13- أَطِبْ مطعمك، ولا تأكل من حرام أو شبهة.
14- أحْسِن الظنَّ بالله، ولا تيئس من رحمته أبدًا.
15- جاهِدْ نفسك على ترك الشَّهوات وإتيان المكاره.
16- لا تقترب من مواضع الفِتَن حتَّى لا تقع فيها.
17- الْتَزم بمنهج أهل السُّنة والجماعة؛ لأنَّها الفرقة الناجية.
وحتَّى لا يَطول بنا البيان في شَرْح كلِّ هذه السُّبل؛ أكتفي هنا ببيان الثَّلاثة الأولى منها، وأترك الباقي لفِطْنة واجتهاد القارئ في معرفة تفاصيلها وبيانها.
وأُوصيهبالبحث والتأمُّل في هذه الكتب الثلاثة النَّفيسة للعلاَّمة ابن القيِّمتلميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمهما الله تعالى - وفيها ما يَكْفيويشفي، والله المستعان:
1- "إغاثة اللَّهفان من مصائد الشيطان".
2- "الجواب الكافي لمن سأل عن الدَّواء الشَّافي".
3- "روضة المُحِبِّين ونزهة المشتاقين".
ولْنَشرع في بيان السُّبل الثَّلاثة الأولى بلا تطويل مُملٍّ أو تقصير مُخِل، والله المستعان.
1 - لا تفتر عن ذكر الله تعالى:
قال - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ﴾ [البقرة: 152]، وقال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْرَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَالْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
وقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مثَلُ الذي يَذْكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه، مثَلُ الحيِّ والميِّت))[8].
واعلم - أخي القارئ - أنَّ الذَّاكر لله تعالى قريبٌ من ربِّه، وفي جَناب رَحْمته وكرَمِه، تَستغفر له ملائكتُه، وينبغي أن يَلْتَزم بآداب الذِّكر وشروطِه؛ ليكون مقبولاً عند الله تعالى، وتَسْمُو نفْسُه بِقُربِها من الله تعالى.
قال النوويُّ في كتابه "الأذكار" (1/ ص 10) ما مُختصَره:
"الذِّكر يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، والأفضل منه ما كان بالقَلْب واللِّسان جميعًا، فإنِ اقتصر على أحدِهِما فالقلب أفضل، ثُمَّ لا ينبغي أن يَتْرك الذِّكر باللِّسان مع القلب؛ خوفًا من أن يُظَنَّ به الرِّياء، بل يَذْكر بهما جميعًا، ويقصد به وَجْه الله تعالى".
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
"اعلم أنَّ فضيلة الذِّكر غير مُنْحَصِرة في التَّسبيح والتهليل، والتحميد والتَّكبير ونَحْوِها، بل كلُّ عاملٍ لله تعالى بطاعة فهو ذاكِرٌ لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جُبَير - رضي الله عنه - وغيره من العلماء.
وقال عطاء - رحمه الله -: مَجالس الذِّكر هي مَجالس الحلال والحرام؛ كيف تَشْتري وتبيع؟ وتصلي وتصوم؟ وتنكح وتطلِّق؟ وتحجُّ؟ وأشباه هذا"؛ اهـ.
والنفس تطمئنُّ إلى ما يطمئِنُّ إليه القلب، والقلب يطمئن بذِكْر الله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
ومِن ثَمَّ، لا مندوحة من كَثْرة الذِّكر؛ لِمَا له من الفوائد العظيمة في صَلاح النَّفس والقلب معًا.
وقال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - في "الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطيِّب"، (1/ ص56) عن فوائد الذِّكر ما مُختصَرُه:
"ولا ريب أنَّ القلب يَصْدأ كما يصدأ النُّحاس والفِضَّة وغيرهما، وجِلاؤه بالذِّكر، فإنه يَجْلوه حتى يَدَعَه كالمِرْآة البيضاء، فإذا ترك صَدِئ، فإذا ذكَر جلاه.
وصدَأُ القلب بأَمْرين؛ بالغفلة، والذَّنب، وجِلاؤه بشيئين؛ بالاستغفار، والذِّكر.
فمَن كانت الغفلةُ أغلبَ أوقاته كان الصَّدأ مُتَراكبًا على قلبه، وصدَؤُه بحسب غفلته، وإذا صَدِئ القلب لم تَنْطبع فيه صُوَر المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل؛ لأنَّه لَمَّا تراكَم عليه الصَّدَأ أظْلَمَ فلم تَظْهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ ورَكِبه الرَّان، فسَد تصَوُّره وإدراكه، فلا يَقْبل حقًّا ولا يُنْكِر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب.
وأصل ذلك من الغفلة واتِّباع الْهَوى؛ فإنهما يَطْمِسان نور القلب ويعْمِيان بصَره؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
فإذا أراد العبد أن يَفْتدي برجل فَلْينظر: هل هو من أهل الذِّكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكِمُ عليه الهوى أو الوحي؟
فإن كان الحاكم عليه هو الْهَوى وهو من أهل الغَفْلة، كان أمره فرُطًا، ومعنى الفرُطِ قد فُسِّر بالتضييع؛ أيْ: أمْرُه الذي يجب أن يَلْزَمَه ويقوم به، وبِه رشْدُه وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفُسِّر بالإسراف؛ أيْ: قد أفرط، وفُسِّر بالإهلاك، وفُسِّر بالخلاف للحقِّ، وكلها أقوال متقارِبَة، والمقصود أنَّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن طاعة مَن جَمَع هذه الصِّفات.
فينبغي للرَّجل أن ينظر في شيخه وقُدْوته ومَتْبوعه، فإنْ وجَده كذلك فلْيبْعد منه، وإنْ وجَدَه ممن غلب عليه ذِكْر الله - عزَّ وجلَّ - واتِّباع السُّنة، وأمره غير مَفْروط عليه، بل هو حازم في أمره - فلْيَستمسك بِغَرْزِه، ولا فرق بين الحيِّ والميت إلاَّ بالذِّكر، فمَثَل الذي يَذْكر رَبَّه والذي لا يذكر ربَّه كمثَل الحيِّ والميت.
ثمذكر - رَحِمَه الله تعالى - عشرات من فوائد ذِكْر الله تعالى، والتي فيهاصلاحُ القلوب والنُّفوس، نَذْكر بعضها هنا، والله المستعان:
1- أنَّه يَطْرد الشَّيطان ويقمعه ويكسره.
2- أنه يُرْضي الرحمن - عزَّ وجلَّ.
3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
4- أنه يَجْلب الرِّزق.
5- أنه يكسو الذَّاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
6- أنه يورثه المَحبَّة التي هي رُوح الإسلام وقُطْب رحَى الدِّين، ومدار السعادة والنَّجاة، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، وجعل سبب المَحبَّة دوام الذِّكر، فمن أراد أن يَنال مَحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - فلْيَلْهَج بذِكْره؛ فإنه الدَّرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذِّكْر باب المَحبَّة وشارعها الأعظم وصِرَاطها الأقوم.
7- أنَّه يورثه المراقبة حتى يُدْخِله في باب الإحسان، فيَعْبد الله كأنَّه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
8- أنه يورثه الإِنَابة، وهي الرُّجوع إلى الله - عزَّ وجلَّ - فمتَى أكثر الرُّجوع إليه بِذِكْره أورَثَه ذلك رجوعَه بقلبه إليه في كلِّ أحواله، فيَبْقى الله - عزَّ وجلَّ - مَفْزَعَه وملجَأَه، ومَلاذَه ومَعاذَه، وقِبْلةَ قلْبِه، ومَهْرَبه عند النوازل والبلايا.
9- أنَّه يورثه الهيبة لربِّه - عزَّ وجلَّ - وإجلالَه؛ لشدَّة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإنَّ حجاب الهيبة رقيقٌ في قلبه.
10- أنَّه يورثه ذِكْرَ الله تعالى له؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، ولو لم يكن في الذِّكر إلاَّ هذه وحدها لكَفى بها فضلاً وشرفًا، وقال - صلَّى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِي عن رَبِّه - تبارك وتعالى -: ((مَن ذكَرَني في نفْسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكَرني في مَلأٍ ذكَرْتُه في ملأٍ خير منهم)).
11- أنه يحطُّ الخطايا ويُذْهِبها؛ فإنَّه من أعظم الحسنات، والحسنات يُذْهِبن السيِّئات.
12- أنه سبب اشتغال اللِّسان عن الغيبة والنَّميمة، والكذب والفُحْش والباطل، فإنَّ العبد لا بُدَّ له من أن يتكلَّم، فإن لم يتكلَّم بِذِكْر الله تعالى وذِكْر أوامره تكلَّم بهذه المُحَرَّمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السَّلامة منها ألبتَّة إلاَّ بذِكْر الله تعالى.
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمَن عوَّد لِسانه ذِكْرَ الله صان لسانه عن الباطل واللَّغو، ومن يبس لسانه عَن ذِكْر الله تعالى ترَطَّب بكلِّ باطل ولَغْو وفُحْش، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
2- أتْبِعِ السيِّئة الحسنة تَمْحُها، وحافِظْ على حسناتك:
فلو نطَق لِسانُك بكلمة لا يَرْضاها الله تعالى كغِيبة أو نَميمة أو كذبة فهذه سيِّئة، وللمحافظة على رُجْحان كفَّة حسناتك، أتْبِع السيِّئة الحسنة، وهذا ما أوصانا به الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيِّئةَ الحسنة تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بِخُلُق حسن))[9].
فعليك بذِكْر الله، ولك بكلِّ تسبيحة صدقَة، وكلِّ تهليلة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، أو قل بعدها: "أستغفر الله العظيم، وأتوب إليه"، وإيَّاك والإصرارَ على الخطأ في الكلام، فرُبَّما كانت كلمة تُخْرِجك من المِلَّة؛ لحديث البخاريِّ عن أبي هريرة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من رِضْوان الله لا يُلْقِي لَها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم))[10].
ومن رحمة الله أنَّه يُجازي السيِّئة بالسيِّئة، والحسنة بِعَشر؛ لِحَديثِ مُسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: إذا هَمَّ عبدي بسيِّئة فلا تَكْتبوها عليه، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها سيِّئة، وإذا هَمَّ بحسنة فلم يَعْمَلها فاكتبوها حسَنة، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها عشرًا))[11].
فالمقصود: إنْ عَمِلْت عملاً لا يَرْضاه الله حرَّضك عليه شيطانُك؛ لِغَضب أو كِبْر، فعليك بِعَمَل يمحو العمل السيِّئ؛ لأنَّ الحسنات تُذْهِبْن السيِّئات.
وهذا الأمر يَسْتلزم من العبد أن يكون مُراقِبًا ومُحاسبًا لِنَفْسِه، وإلاَّ هلك بتراكُم السيِّئات، وقِلَّة الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ مَن أتى الله تعالى بِقَلب سليم.
ويَجِب على مَن تستحلُّ نَفْسُه المعصية أيًّا كانت أن يُبادر إلى تقويمها وترويضها، ولا يتركها على هواها، فتُفْسِد عليه دينَه ودنياه، ولا يكتفي بإصلاح خُطاها بالحسنات الماحية، بل لا بُدَّ من تغييرها للأفضل ولو بالتدرُّج؛ وذلك عن طريق المجاهدة.
قال العلاَّمة ابن القيِّم في "الفوائد" (1/60) ما نَصُّه:
"قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69] علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمَلُ الناس هداية أعظَمُهم جِهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النَّفْس، وجهاد الْهَوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدُّنيا، فمَن جاهَدَ هذه الأربعة في الله هداه الله سبُلَ رِضاه المُوصلة إلى جَنَّتِه، ومن ترك الجهاد فاته مِن الْهُدى بحسب ما عطَّل من الجهاد، قال الْجُنَيْد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتَّوبة لَنهدِيَنَّهم سبُلَ الإخلاص، ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلاَّ مَن جاهد هذه الأعداء باطِنًا، فمن نُصِر عليها نُصر على عدوِّه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِر عليه عدوُّه"؛ اهـ.
3- تفَقَّه في الدِّين؛ لِتَعبد الله على بصيرة مِن أمرك:
أغْلَب عيوب وآفات النَّفس تأتي من الجهل بالحلال والحرام، ولو تفقَّه العبد في دينه لاسْتَطاع ترويض نفسه وتقويمها على طاعة الله تعالى، وفي القرآن والسُّنة من الحَثّ على العلم والتعلُّم نصوص كثيرة، أذكر منها:
• قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
• وقوله - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
• ومن السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا حسَدَ إلاَّ في اثنتَيْن: رجُلٍ آتاه الله مالاً، فسُلِّط على هلَكَتِه في الحقِّ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها))[12].
• وقوله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن سلَك طريقًا يَلْتمس فيه عِلمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة))[13].
والوسيلة للتفقُّه تأتي من عدَّة طُرُق، منها:
1- أن يُحضِّر درسًا أسبوعيًّا على الأقلِّ، في المسجد أو عن طريق الاستماع أو المشاهدة، ولْيُكثِر من الاطِّلاع والقراءة لِكُتُب العلماء الثِّقات من أهل السُّنة والجماعة.
2- أن يَسأل أهل الذِّكر ويَسْتفسر حتَّى يستوثق من الصَّواب عندما تستشكل عليه بعضُ المسائل؛ لتوضيح ما لم يَفْهمه، ولْيَحْذر من تفسيرها على هواه، فيفهم غير مرادها، فيقع في معاصٍ لم يكن يَرْتَكِبها، ولْتَكن أسئلته في المُهِمِّ، وليس في إشكالات وتفاهات، وإنَّما ما ينفع دينه ودُنياه.
3- أن يعمل بما يَعْلم، ولا يكون التزامه أجوف؛ لأن العمل بدون عِلْم لا يكون، والعلم بدون عمل جنون.
يقول ابن القيِّم في كتابه "طريق الهجرتين"، (1/ 278) ما نصُّه:
"فمِن الناس مَن يكون له القُوَّة العلميَّة الكاشفة عن الطريق، ومنازِلِها وأعلامها، وعوارضها ومَعاثرها، وتكون هذه القُوَّة أغلب القُوَّتَيْن عليه، ويكون ضعيفًا في القوَّة العمليَّة، يبصر الحقائق ولا يعمل بِمُوجبِها، ويرى الْمَتالف والْمَخاوف والْمَعاطب، ولا يتوقَّاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، وإذا حضر العمل شارك الجُهَّال في التخلُّف، وفارقَهم في العلم، وهذا هو الغالِب على أكثر النُّفوس المشتَغِلَة بالعلم، والمعصومُ مَن عصَمَه الله، ولا قُوَّة إلاَّ بالله.
ومن النَّاس مَن تكون له القُوَّة العمَليَّة الإراديَّة، وتكون أغلب القُوَّتين عليه، وتقتضي هذه القوَّة السَّيْر والسُّلوك، والزُّهد في الدُّنيا، والرَّغبة في الآخرة، والجِدَّ والتَّشمير في العمل، ويكون أعمى البصَر عند وُرود الشُّبهات في العقائد، والاِنْحرافات في الأعمال والأقوال والْمَقامات كما كان الأوَّل ضعيف العقل عند وُرود الشَّهوات، فَداءُ هذا مِن جهله، وداء الأوَّل من فَساد إرادته وضَعْف عقله.
وهذا حال أكثر أرباب الفَقْر والتصوُّف السَّالكين على غَيْر طريق العِلْم، بل على طريق الذَّوْق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مَطْلوبه لا يَدْري مَن يَعْبد ولا بِمَاذا يعبده؟فتارةً يَعْبده بِذَوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، مِن لبْس معيَّن، أو كشف رأس، أو حَلْق لِحْية ونحوها، وتارة يَعْبُده بالأوضاع التي وضَعَها بعضُ المُتَحذْلِقين، وليس له أصْلٌ في الدِّين، وتارة يعبده بما تُحبُّه نفسه وتهواه، كائنًا ما كان، وهُنا طرُق ومَتاهات لا يُحْصِيها إلاَّ ربُّ العِباد.
فهؤلاء كلُّهم عمي عن ربِّهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بَعَث به رسُلَه، وأنزل به كتُبَه، ولا يَقبل مِن أحدٍ دِينًا سواه، كما أنَّهم لا يَعْرفون صفات ربِّهم التي تعرَّف بها إلى عِباده على ألْسِنَة رسُلِه، ودعاهم إلى معرفته ومَحبَّتِه مِن طريقها، فلا معرفة بالرَّبِّ، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القُوَّتان استقام له سَيْره إلى الله، ورُجِيَ له النُّفوذ، وقَوِيَ على ردِّ القواطع والموانع بِحَول الله وقُوَّته، فإنَّ القواطع كثيرة، شأنها شديدٌ، لا يَخْلص مِن حبائلها إلاَّ الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطَّريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكنَّ الله يَفْعل ما يريد.
والوقت - كما قيل - سيفٌ، فإنْ قطَعْتَه، وإلاَّ قطَعَك، فإذا كان السَّير ضعيفًا، والهِمَّة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنَّه جَهْد البلاء، ودَرَكُ الشَّقاء وشَماتة الأعداء، إلاَّ أن يتدارَكَه الله برحْمَة منه مِن حيثُ لا يَحْتسب، فيأخذ بِيَدِه، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولِيُّ التوفيق؛ اهـ.
ونكتفي بما ذكَرْنا من شَرْح وبيانٍ لسُبُلِ علاج النَّفْس وتهذيبها، والله من وراء القصْد، وهو يهدي السبيل
وكتبه الكاتب والداعية الاسلامي المصري سيد مبارك.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز ح/ 237، ومسلم في الإيمان ح/ 94.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان ح/ 30، والبخاري في الجهاد ح/ 2856.
[3] أخرجه أبي داود في الأدب، وصحَّح الألبانِيُّ إسناده في "سنن أبي داود"، ح/ 4986.
[4] "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير، (3/ 125).
[5] أخرجه أحمد، والبيهقيُّ في "شُعَب الإيمان"، وصحَّح الألبانِيُّ إسناده في "المشكاة"، ح/ 578.
[6] أخرجه مسلم في الإيمان ح82، وأبو داود في السُّنة ح/ 4678.
[7] قال الألباني: "صحيح"؛ انظر حديث رقم: 3512 في "صحيح الجامع".
[8] أخرجه البخاري في الدَّعوات ح/ 6407.
[9] أخرجه التِّرمذي في "البِرِّ والصِّلة"، وصحَّح الألباني إسناده في "الجامع"، ح/ 97.
[10] أخرجه البخاري في الرِّقاق ح/ 6478.
[11] أخرجه مسلم في الإيمان ح/ 128.
[12] أخرجه البخاري في العلم ح/ 73، ومسلم في صلاة المسافرين ح/ 816.
[13] وإسناده صحيح، انظر حديث رقم: 6298 في "صحيح الجامع"، للألباني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق